يتبع ان شاء الله
---------
وجاء في حديث ابي الزبير أنه
سمع عبد الرحمن ابن أيمن يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع قال:(وذكر الحديث التالي):
عن ابن جريج، أخبرني أبو
الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر - رضي الله عنهما -
وأبو الزبير يسمع، قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ , قال: طلق عبد الله بن
عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم
- فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي
حائض، قال عبد الله: " فردها علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرها
شيئا (1) وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك "، قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى
الله عليه وسلم -: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} (2) في قبل عدتهن
" (3) قلت
المدون: هذه
القرآءة نسخت بما استقر عليه التنزيل بقوله تعالي( يأيها النبي إذا طلقتم النساء
فطلقوهن لعدتهن}والفرق بين القراءتين كالفرق بين التطليق في أول العدة (قبل عدتهن
)وبين آخر ما استقر عليه تشريع الطلاق (فطلقوهن لعدتهن يعني في دبر
العدة ونهايتها):
(1) قال الحافظ شمس الدين
ابن القيم رحمه الله: وقد أخرج مسلم في صحيحه " حديث أبي الزبير هذا بحروفه
" إلا أنه لم يقل " ولم يرها شيئا " بل قال: " فردها "، وقال "
إذا طهرت " إلى آخره. وقد دل حديث ابن عمر هذا على أمور:
1. منها: تحريم الطلاق
في الحيض [قلت
المدون: لم
يعني النبي صلي الله عليه وسلم ذلك بالتحديد إنما أراد التطلق في دبر العدة وليس
أولها أي في الطهر الثالث بعد الإحصاء وبلوغ نهاية العدة].
2.ثم قال ابن القيم الإمام
:ومنها: أنه حجة لمن قال بوقوعه، قالوا: لأن الرجعة إنما تكون بعد الطلاق، ونازعهم
في ذلك آخرون. وقالوا: لا معنى لوقوع الطلاق والأمر بالمراجعة، فإنه لو لم يعد
الطلاق لم يكن لأمره بالرجعة معنى، بل أمره بارتجاعها، وهو ردها إلى حالها الأولى
قبل تطليقها دليل على أن الطلاق لم يقع. قالوا: وقد صرح بهذا في حديث أبي الزبير
المذكور آنفا.
قالوا: وأبو الزبير ثقة في نفسه
صدوق حافظ، إنما تكلم في بعض ما رواه عن جابر معنعنا لم يصرح بسماعه منه، وقد صرح
في هذا الحديث بسماعه من ابن عمر، فلا وجه لرده. قالوا: ولا يناقض حديثه ما
تقدم من قول ابن عمر فيه:
" أرأيت إن عجز واستحمق " وقوله
" فحسبت من طلاقها
" لأنه ليس في ذلك لفظ مرفوع إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - وقوله " ولم يرها شيئا " مرفوع صريح في عدم الوقوع. قالوا:
وهذا مقتضى قواعد الشريعة , فإن الطلاق لما كان منقسما إلى حلال وحرام، كان قياس
قواعد الشرع أن حرامه باطل غير معتد به، كالنكاح وسائر العقود التي تنقسم إلى حلال
وحرام، ولا يرد على ذلك الظهار، فإنه لا يكون قط إلا حراما، لأنه منكر من القول
وزور، فلو قيل لا يصح، لم يكن للظهار حكم أصلا. قالوا: وكما أن قواعد الشريعة أن
النهي يقتضي التحريم، فكذلك يقتضي الفساد، وليس معنا ما يستدل به على فساد العقد
إلا النهي عنه. قالوا: ولأن هذا طلاق منع منه صاحب الشرع، وحجر على العبد في اتباعه،
فكما أفاد منعه وحجره عدم جواز الإيقاع أفاد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للحجر فائدة،
وإنما فائدة الحجر عدم صحة ما حجر على المكلف فيه ,
- قالوا وما زال الكلام لابن
القيم : ولأن
الزوج لو أذن له رجل بطريق الوكالة أن يطلق امرأته طلاقا معينا فطلق غير ما أذن له
فيه، لم ينفذ لعدم إذنه , والله سبحانه إنما أذن للعبد في الطلاق المباح، ولم يأذن
له في المحرم، فكيف تصححون ما لم يأذن به وتوقعونه، وتجعلونه من صحيح أحكام
الشرع؟! قالوا: ولأنه لو كان الطلاق نافذا في الحيض لكان الأمر بالمراجعة والتطليق
بعده تكثيرا من الطلاق البغيض إلى الله وتقليلا لما بقي من عدده الذي يتمكن من
المراجعة معه
, ومعلوم أنه لا مصلحة في ذلك. قالوا: وإن مفسدة
الطلاق الواقع في الحيض لو كان واقعا، لا يرتفع بالرجعة والطلاق بعدها، بل إنما
يرتفع بالرجعة المستمرة التي تلم شعث النكاح، وترقع خرقه , فأما رجعة يعقبها طلاق،
فلا تزيل مفسدة الطلاق الأول لو كان واقعا.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فما حرمه الله سبحانه من العقود، فهو مطلوب الإعدام بكل طريق حتى يجعل وجوده كعدمه
في حكم الشرع، ولهذا كان ممنوعا من فعله، باطلا في حكم الشرع , والباطل شرعا كالمعدوم , ومعلوم
أن هذا هو مقصود الشارع مما حرمه ونهى عنه، فالحكم ببطلان ما حرمه ومنع منه أدنى
إلى تحصيل هذا المطلوب وأقرب، بخلاف ما إذا صحح، فإنه يثبت له حكم الوجود.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :ولأنه
إذا صحح استوى هو والحلال في الحكم الشرعي، وهو الصحة , وإنما يفترقان في موجب ذلك
من الإثم والذم , ومعلوم أن الحلال المأذون فيه لا يساوي المحرم الممنوع منه البتة.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فإنما حرم لئلا ينفذ ولا يصح، فإذا نفذ وصح وترتب عليه حكم الصحيح، كان ذلك عائدا
على مقتضى النهي بالإبطال.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فالشارع إنما حرمه ونهى عنه لأجل المفسدة التي تنشأ من وقوعه، فإن ما نهى عنه
الشرع وحرمه لا يكون قط إلا مشتملا عن مفسدة خالصة أو راجحة، فنهى عنه قصدا لإعدام
تلك المفسدة , فلو حكم بصحته ونفوذه لكان ذلك تحصيلا للمفسدة التي قصد الشارع
إعدامها، وإثباتا لها.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فالعقد الصحيح هو الذي يترتب عليه أثره، ويحصل منه مقصوده , وهذا إنما يكون في
العقود التي أذن فيها الشارع، وجعلها أسبابا لترتب آثارها عليها، فما لم يأذن فيه
ولم يشرعه كيف يكون سببا لترتب آثاره عليه ويجعل كالمشروع المأذون فيه.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فالشارع إنما جعل للمكلف مباشرة الأسباب فقط، وأما أحكامها المترتبة عليها فليست
إلى المكلف، وإنما هي إلى الشارع، فهو قد نصب الأسباب وجعلها مقتضيات لأحكامها،
وجعل السبب مقدورا للعبد، فإذا باشره رتب عليه الشارع أحكامه , فإذا كان السبب محرما
كان ممنوعا منه , ولم ينصبه الشارع مقتضيا لآثار السبب المأذون فيه، والحكم ليس
إلى المكلف حتى يكون إيقاعه إليه غير مأذون فيه، ولا نصبه الشارع لترتب الآثار
عليه، فترتيبها عليه إنما هو بالقياس على السبب المباح المأذون فيه! وهو
قياس في غاية الفساد، إذ هو قياس أحد النقيضين على الآخر في التسوية بينهما في
الحكم، ولا يخفى فساده.
قالوا وما زال الكلام لابن
القيم :وأيضا
فصحة العقد هو عبارة عن ترتب أثره المقصود للمكلف عليه، وهذا الترتب نعمة من
الشارع أنعم بها على العبد، وجعل له طريقا إلى حصولها بمباشرة الأسباب التي أذن له
فيها، فإذا كان السبب محرما منهيا عنه كانت مباشرته معصية، فكيف تكون المعصية سببا
لترتب النعمة التي قصد المكلف حصولها!
قالوا (وما زال الكلام لابن القيم) :وقد
علل من أوقع الطلاق وأوجب الرجعة إيجاب الرجعة بهذه العلة بعينها ,
*وقالوا: أوجبنا عليه الرجعة معاملة
له بنقيض قصده، فإنه ارتكب أمرا محرما يقصد به الخلاص من الزوجة، فعومل بنقيض
قصده، فأمر برجعتها.
*قالوا: فما جعلتموه أنتم علة لإيجاب
الرجعة، فهو بعينه علة لعدم وقوع الطلاق الذي قصده المكلف بارتكابه ما حرم الله
عليه , ولا ريب أن دفع وقوع الطلاق أسهل من دفعه بالرجعة، فإذا اقتضت هذه العلة
دفع أثر الطلاق بالرجعة، فلأن تقتضي دفع وقوعه أولى وأحرى.
*قالوا: وأيضا فلله تعالى في الطلاق
المباح حكمان: أحدهما: إباحته والإذن فيه، والثاني: جعله سببا للتخلص من الزوجة ,
فإذا لم يكن الطلاق مأذونا فيه انتفى الحكم الأول - وهو الإباحة - فما الموجب
لبقاء الحكم الثاني وقد ارتفع سببه ومعلوم أن بقاء الحكم بدون سببه ممتنع , ولا
تصح دعوى أن الطلاق المحرم سبب لما تقدم ,
*قالوا: وأيضا فليس في لفظ الشارع " يصح
كذا ولا يصح "، وإنما يستفاد ذلك من إطلاقه ومنعه، فما أطلقه وأباحه فباشره
المكلف حكم بصحته، بمعنى أنه وافق أمر الشارع فصح، وما لم يأذن فيه ولم يطلقه
فباشره المكلف حكم بعدم صحته، بمعنى أنه خالف أمر الشارع وحكمه , وليس
معنا ما يستدل به على الصحة والفساد إلا موافقة الأمر والإذن وعدم موافقتهما , فإن
حكمتم بالصحة مع مخالفة أمر الشارع وإباحته، لم يبق طريق إلى معرفة الصحيح من
الفاسد، إذ لم يأت من الشرع إخبار بأن هذا صحيح وهذا فاسد غير الإباحة والتحريم،
فإذا جوزتم ثبوت الصحة مع التحريم، فبأي شيء تستدلون بعد ذلك على فساد العقد
وبطلانه ,
*قالوا: وأيضا فإن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال:
" كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد "،
وفي لفظ: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "، أي: فهو مردود، وهذا تصريح بإبطال كل عمل على خلاف أمره ورده،
وعدم اعتباره في حكمه المقبول، ومعلوم أن المردود هو الباطل بعينه، بل كونه ردا
أبلغ من كونه باطلا، إذ الباطل قد يقال لما لا تقع فيه أو لما منفعته قليلة جدا , وقد
يقال لما ينتفع به ثم يبطل نفعه، وأما المردود فهو الذي لم يجعله شيئا ولم يترتب
عليه مقصوده أصلا.
*قالوا: فالمطلق في الحيض قد طلق
طلاقا ليس عليه أمر الشارع، فيكون مردودا، فلو صح ولزم لكان مقبولا منه، وهو خلاف
النص.
*قالوا: وأيضا فالشارع أباح للمكلف
من الطلاق قدرا معلوما في زمن مخصوص , ولم يملكه أن يتعدى القدر الذي حد له، ولا
الزمن الذي عين له، فإذا تعدى ما حد له من العدد كان لغوا باطلا، فكذلك إذا تعدى
ما حد له من الزمان يكون لغوا باطلا، فكيف يكون عدوانه في الوقت صحيحا معتبرا
لازما، وعدوانه أنه في العدد لغوا باطلا؟ قالوا: وهذا كما أن الشارع حد له عددا من
النساء معينا في وقت معين، فلو تعدى ما حد له من العدد كان لغوا وباطلا , وكذلك لو
تعدى ما حد له من الوقت بأن ينكحها قبل انقضاء العدة مثلا، أو في وقت الإحرام،
فإنه يكون لغوا باطلا
, فقد شمل البطلان نوعي التعدي عددا أو وقتا.
*قالوا: وأيضا فالصحة إما أن تفسر بموافقة
أمر الشارع، وإما أن تفسر بترتب أثر الفعل عليه، فإن فسرت بالأول لم يكن تصحيح هذا
الطلاق ممكنا، وإن فسرت بالثاني وجب أيضا أن لا يكون العقد المحرم صحيحا، لأن ترتب
الثمرة على العقد إنما هو بجعل الشارع العقد كذلك، ومعلوم أنه لم يعتبر العقد
المحرم، ولم يجعله مثمرا لمقصوده، كما مر تقديره.
*قالوا: وأيضا فوصف العقد المحرم
بالصحة، مع كونه منشئا للمفسدة ومشتملا على الوصف المقتضي لتحريمه وفساده جمع بين
النقيضين فإن الصحة إنما تنشأ عن المصلحة، والعقد المحرم لا مصلحة فيه , بل هو
منشئ لمفسدة خالصة أو راجحة. فكيف تنشأ الصحة من شيء هو منشئ المفسدة. قالوا:
وأيضا فوصف العقد المحرم بالصحة إما أن يعلم بنص من الشارع، أو من قياسه، أو من
توارد عرفه في مجال حكمه بالصحة، أو من إجماع الأمة , ولا يمكن إثبات شيء من ذلك في
محل النزاع، بل نصوص الشرع تقتضي رده وبطلانه كما تقدم، وكذلك قياس الشريعة كما
ذكرناه، وكذلك استقراء موارد عرف الشرع في مجال الحكم بالصحة، إنما يقتضي البطلان
في العقد المحرم لا الصحة، وكذلك الإجماع، فإن الأمة لم تجمع قط ولله الحمد على
صحة شيء حرمه الله ورسوله، لا في هذه المسألة ولا في غيرها، فالحكم بالصحة فيها
إلى أي دليل يستند؟
*قالوا: وأما قول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: " مره فليراجعها " فهذا حجة لنا على عدم الوقوع، لأنه
لما طلقها والرجل من عادته إذا طلق امرأته أن يخرجها عنه، أمره بأن يراجعها
ويمسكها، فإن هذا الطلاق الذي أوقعه ليس بمعتبر شرعا، ولا تخرج المرأة عن الزوجية
بسببه، فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم - لبشير بن سعد في قصة نحله ابنه النعمان
غلاما " رده ". ولا يدل أمره إياه برده على أن الولد قد ملك الغلام، وأن
الرد إنما يكون بعد الملك، فكذلك أمره برد المرأة ورجعتها لا يدل على أنه لا يكون إلا
بعد نفوذ الطلاق، بل لما ظن ابن عمر جواز هذا الطلاق فأقدم عليه قاصدا لوقوعه رد
إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأته وأمره أن يردها، ورد الشيء إلى ملك من
أخرجه لا يستلزم خروجه عن ملكه شرعا، كما ترد العين المغصوبة إلى مالكها، ويقال
للغاصب: ردها إليه , ولا يدل ذلك على زوال ملك صاحبها عنها وكذلك إذا قيل: رد على
فلان ضالته، ولما باع على أحد الغلامين الأخوين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم
-: " رده، رده
" , وهذا أمر بالرد حقيقة.
*قالوا: فقد وفينا اللفظ حقيقته التي
وضع لها.
*قالوا: وأيضا فقد صرح ابن عمر
" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها عليه ولم يرها شيئا " وتعلقكم
على أبي الزبير مما لا متعلق فيه فإن أبا الزبير إنما يخاف من تدليسه، وقد صرح هذا
بالسماع كما تقدم، فدل على أن الأمر بمراجعتها لا يستلزم نفوذ الطلاق
*قالوا: والذي يدل عليه أن
ابن عمر قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض: " لا يعتد بذلك "، ذكره الإشبيلي في الأحكام من طريق محمد بن عبد السلام الخشني
قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله
بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال، في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر:
لا يعتد بذلك
"،
- وذكره ابن حزم في كتاب
المحلى بإسناده من طريق الخشني. وهذا إسناد صحيح.
* قالوا: وأما قولكم إن نافعا
أثبت في ابن عمر وأولى به من أبي الزبير وأخص، فروايته أولى أن نأخذ بها، فهذا
إنما يحتاج إليه عند التعارض، فكيف ولا تعارض بينهما؟ :
1.فإن رواية أبي الزبير صريحة
في أنها لم تحسب عليه،
2.وأما نافع فرواياته ليس فيها
شيء صريح قط، أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - حسبها عليه، بل مرة قال
" فمه " أي:
فما يكون؟ وهذا ليس بإخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حسبها، ومرة قال
" أرأيت إن عجز واستحمق؟ " , وهذا رأي محض، ومعناه أنه
ركب خطة عجز واستحمق، أي:
ركب أحموقة وجهالة، فطلق في زمن لم يؤذن له في
الطلاق فيه، ومعلوم أنه لو كان عند ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - حسبها عليه
لم يحتج أن يقول للسائل " أرأيت إن عجز واستحمق؟ "، فإن هذا ليس بدليل
على وقوع الطلاق، فإن من عجز واستحمق يرد إلى العلم والسنة التي سنها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فكيف يظن بابن عمر أنه يكتم نصا عن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في
الاعتداد بتلك الطلقة، ثم يحتج بقوله " أرأيت إن عجز واستحمق " وقد سأله
مرة رجل عن شيء فأجابه بالنص، فقال السائل: أرأيت إن كان كذا وكذا؟ قال: "
اجعل أرأيت باليمن " ومرة قال " تحسب من طلاقها "، وهذا قول نافع ليس
قول ابن عمر، كذلك جاء مصرحا به في هذا الحديث في الصحيحين قال عبيد الله بن عمر
لنافع " ما فعلت التطليقة؟ , قال: واحدة اعتد بها "، وفي بعض ألفاظه:
" فحسبت تطليقة "، وفي لفظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر: " فحُسبَت
علي بتطليقة
"،
ولكن هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن جبير عنه، وخالف نافعا وأنس بن سيرين ويونس بن
جبير وسائر الرواة عن ابن عمر، فلم يذكروا " فحسبت علي "، وانفراد ابن جبير بها كانفراد أبي الزبير بقوله " ولم يرها شيئا "، فإن تساقطت الروايتان لم يكن في سائر الألفاظ دليل على الوقوع، وإن
رجح إحداهما على الأخرى فرواية أبي الزبير صريحة في الرفع، ورواية سعيد بن جبير
غير صريحة في الرفع، انقر هذه الروابط
- فإنه لم يذكر فاعل الحساب،
فلعل أباه حسبها عليه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الذي ألزم
الناس فيه بالطلاق الثلاث وحسبه عليهم اجتهادا منه ومصلحة رآها للأمة، لئلا
يتتابعوا في الطلاق المحرم، فإذا علموا أنه يلزمهم وينفذ عليهم أمسكوا عنه، وقد
كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتسب عليهم به ثلاثا في لفظ واحد فلما
رأى عمر الناس قد أكثروا منه رأى إلزامهم به والاحتساب عليهم به. قالوا:
وبهذا تأتلف الأحاديث الواردة في هذا الباب، ويتبين وجهها، ويزول عنها التناقض
والاضطراب، ويستغنى عن تكلف التأويلات المستكرهة لها، ويتبين موافقتها لقواعد
الشرع وأصوله.
*قالوا: وهذا الظن بعمر - رضي الله
عنه - أنه إذا احتسب على الناس بالطلاق الثلاث احتسب على ابنه بتطليقته التي طلقها
في الحيض وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرها شيئا مثل كون الطلاق الثلاث
على عهده كان واحدة , وإلزام عمر الناس بذلك كإلزامه له بهذا، وأداه اجتهاده - رضي
الله عنه - إلى أن ذلك كان تخفيفا ورفقا بالأمة لعلة إيقاعهم الطلاق وعدم تتابعهم
فيه، فلما أكثروا منه وتتابعوا فيه ألزمهم بما التزموه،
* وهذا كما أداه اجتهاده في
الجلد في الخمر ثمانين، وحلق الرأس فيه والنفي، والنبي - صلى الله عليه وسلم -
إنما جلد فيه أربعين، ولم يحلق فيه رأسا ولم يغرب، فلما رأى الناس قد أكثروا منه
واستهانوا بالأربعين ضاعفها عليهم، وحلق ونفى , ولهذا نظائر كثيرة ستذكر في موضع
آخر إن شاء الله.
* قالوا: وتوهم من توهم أنا
خالفنا الإجماع في هذه المسألة غلط، فإن الخلاف فيها أشهر من أن يجحد، وأظهر من أن
يستر. وإذا
كانت المسألة من موارد النزاع فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله من رد ما
تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله دون تحكيم أحد من الخلق،
قال تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. فهذه بعض كلمات المانعين من الوقوع , ولو
استوفينا الكلام في المسألة لاحتملت سفرا كبيرا، فلنقتصر على فوائد الحديث.
- قال الموقعون: وفيه
دليل على أن الرجعة يستقل بها الزوج دون الولي ورضا المرأة، لأنه جعل ذلك إليه دون
غيره ودلالة القرآن على هذا أظهر من هذه الدلالة , قال تعالى {وبعولتهن أحق بردهن
في ذلك} فجعل الأزواج أحق بالرجعة من المرأة والولي , واختلفوا في قوله " مره
فليراجعها ": هل
الأمر بالرجعة على الوجوب أو الاستحباب؟ , فقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وابن
أبي ليلى وسفيان الثوري وأحمد في إحدى الروايتين بل أشهرهما عنه: الأمر
بالرجعة استحباب , قال بعضهم: لأن ابتداء النكاح إذا لم يكن واجبا فاستدامته كذلك،
وقال مالك في الأشهر عنه، وداود وأحمد في الرواية الأخرى: الرجعة واجبة الأمر بها،
ولأن الطلاق لما كان محرما في هذا الزمن كان بقاء النكاح واستدامته فيه واجبا، وبهذا
يبطل قولهم إذا لم يجب ابتداء النكاح لم تجب استدامته، فإن الاستدامة ههنا واجبة
لأجل الوقت، فإنه لا يجوز فيه الطلاق. قالوا: ولأن الرجعة إمساك، بدليل قوله
{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} , فالإمساك مراجعتها في العدة،
والتسريح تركها حتى تنقضي عدتها , وإذا كانت الرجعة إمساكا فلا ريب في وجوب
إمساكها في زمن الحيض وتحريم طلاقها، فتكون واجبة.
- ثم اختلف الموجبون للرجعة في
علة ذلك: فقالت طائفة: إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي أراده في زمن الإباحة،
وهو الطهر الذي لم يمسها فيه، فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي ترتبت عليه الأحكام
هو الطلاق المحرم، والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم، فأمر برجعتها ليطلقها
طلاقا مباحا يترتب عليه أحكام الطلاق.
*وقالت طائفة: بل أمره
برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض، فعاقبه بنقيض قصده، وأمره بارتجاعها
عكس مقصوده.
*وقالت طائفة: بل
العلة في ذلك أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل العدة , فأمره برجعتها ليزول
المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله.
*وقال بعض الموجبين: إن أبى
رجعتها أجبر عليها , فإن امتنع ضرب وحبس، فإن أصر حكم عليه برجعتها وأشهد أنه قد
ردها عليه، فتكون امرأته، يتوارثان، ويلزمه جميع حقوقها حتى يفارقها فراقا ثانيا، قاله
أصبغ وغيره من المالكية
* ثم اختلفوا , فقال مالك:
يجبر على الرجعة إن طهرت ما دامت في العدة، لأنه وقت للرجعة. وقال أشهب: إذا طهرت
ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال وإن كانت في العدة، لأنه لا يجب عليه
إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه، فلا يجب عليه رجعتها فيه، إذ لو وجبت
الرجعة في هذا الوقت لحرم الطلاق فيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم - " حتى
تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك .. وإن شاء طلق قبل أن يمس أي
في زمن الطهر الثالث قاله المدون " , قال البيهقي: أكثر
الروايات عن ابن عمر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى
تطهر،
*[ قلت المدون: يجب علي
البيهقي أن يلتزم بسياق النص من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وفيه (ثم تحيض ثم
تطهر ) لأنه أصح الرويات عن ابن عمر ووصفها ابن حجر بسلسلة الذهب] ثم
إن شاء طلق[والتزام
نص رواية مالك عن نافع عن ابن عمر يوجب اضافة لفظة بعد وهو
لفظ يدل علي ظرفية زمان التحذير من انفلات الحيضة الثالثة لأن الطهر الثالث وراءها
مباشرة وهو طهر إيقاع الطلاق وقد لا يتثني للمنذر زوجته بالطلاق إلا أن يُطلق
فتبين منه بينونة كبري وتحرم عليه وتحل مباشرة للخطاب من دونه] وقوله:
وإن شاء أمسك " فإن كانت الرواية عن سالم ونافع وابن دينار في أمره "
بأن يراجعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر [قلت المدون: وباقي
رواية مالك عن نافع عن ابن عمر هي- ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك
العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ثم ذكر قوله تعالي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ
وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)/سورة الطلاق) ]" ويسترسل
البيهقي بقول:
محفوظة، فقد قال الشافعي: يحتمل أن يكون إنما أراد
بذلك الاستبراء، أن يستبرئها بعد الحيضة التي طلقها فيها بطهر تام، ثم حيض تام
ليكون تطليقها وهي تعلم عدتها أبالحمل هي أم بالحيض؟ , أو ليكون تطليقها بعد علمه
بالحمل وهو غير جاهل ما صنع، أو يرغب فيمسك للحمل، أو ليكون إن كانت سألت الطلاق غير
حامل أن تكف عنه حاملا. آخر كلامه.
*وأكثر الروايات في حديث ابن
عمر مصرحة بأنه إنما أذن في طلاقها بعد أن تطهر من تلك الحيضة، ثم تحيض ثم تطهر[قلت
المدون:ثم
تحيض حيضة ثالثة(دل عليها لفظ الظرفية للزمان /بعد/) ثم تطهر /دل عليها لفظ
الظرفية للزمان
/قبل / وبذلك يكون قد حل الطهر
الثالث وهو طهر الطلاق]
هكذا أخرجاه في الصحيحين من رواية نافع عنه،
ومن رواية ابنه سالم عنه
, وفي لفظ متفق عليه: " ثم يمسكها حتى
تطهر، ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها " سيأتي إن شاء الله في
مدونة الطلاق للعدة (اضغط
الرابط من هنـــــــــــا)بيان
تحقيق هذه الروايات وما دخلها من علل المتن كالرواية بالمعني أو الرواية بالإجمال
أو الرواية بالتصرف أو دخول الادراج في متون كل رواية خالفت نص رواية مالك عن نافع
عن ابن عمر والتي تعد السلسلة الذهبية وعمد روايات ابن عمر في قصة طلاق امرأته ، وفي
لفظ آخر متفق عليه: " مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي
طلقها فيها "،
ثم قال:
* ففي تعدد الحيض والطهر ثلاثة
ألفاظ محفوظة متفق عليها، من رواية ابنه سالم , ومولاه نافع , وعبد الله بن دينار
وغيرهم، والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء , ولو قدر التعارض فالزائدون
أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به، فرواياتهم أولى، لأن نافعا مولاه أعلم الناس
بحديثه، وسالم ابنه كذلك، وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه وأرواهم عنه، فكيف
يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على هؤلاء؟ , ومن العجب تعليل حديث أبي
الزبير في ردها عليه من غير احتساب بالطلقة بمخالفة غيره له، ثم تقدم روايته التي
سكت فيها عن تعدد الحيض والطهر على رواية نافع وابن دينار وسالم! , فالصواب الذي
لا يشك فيه أن هذه الرواية ثابتة محفوظة، ولذلك أخرجها أصحاب الصحيحين. راجع الرابط هنا
كل ما سيأتي هنا من
اختلافات بين الفقهاء مردة الي شيئين:
الأول: إعراض المختلفين عن أصح
روايات الحديث عن ابن عمر وهي :[مالك عن نافع عن ابن عمر والموصوفة بسلسلة الذهب
ووجب اعتبارها عمدة احاديث الطلاق والمقياس الذي يقاس عليه سائر الروايات وجميعها
لإكتشاف علل متونها جميعا لأن اللفظ التشريعي واحد في مقام واحد في حادثة واحدة لا
تقبل كل هذه الخلافات في الرواية والتي وصلت في معظم أحوالها الي حد التعارض رابط للمراجعة*****]
الثاني : إعراض الفقهاء عن الفرق
التاريخي في تنزيل سورة البقرة والأحزاب من ناحية وسورة الطلاق من الناحية الأخري برغم
ثبات الفرق الزمني بينهما بيقين لا شك فيه رابط*** كان
يقتضي إعمال الناسخ والمنسوخ في الأحكام المتعارض بينهما وتقديم اللاحق علي السابق
أي تقديم سورة الطلاق في هيمنة أحكامها علي أحكام سورتي البقرة والأحزاب
وإليك ما يأتي:
ثم قال :
**واختلف في جواز طلاقها في
الطهر المتعقب للحيضة التي طلق فيها على قولين: هما روايتان عن أحمد ومالك:
أشهرهما عند أصحاب مالك: المنع حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى تلك الحيضة، ثم تطهر كما
أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والثاني يجوز طلاقها في الطهر المتعقب لتلك
الحيضة وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية الأخرى. ووجهه أن التحريم
إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر كما
يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز أيضا طلاقها فيه لو لم يتقدم طلاق في الحيض،
ولأن في بعض طرق حديث ابن عمر في الصحيح " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا "
وفي لفظ " ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع في قبل عدتها " وفي لفظ "
فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال: فراجعها ثم طلقها لطهرها " , وفي حديث أبي
الزبير وقال " إذا طهرت فليطلق أو ليمسك " , وكل هذه الألفاظ في الصحيح.
وأما أصحاب القول الثاني فاحتجوا بما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم -
بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر , وقد تقدم. قالوا: وحكمة ذلك من وجوه:
أحدها: أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها , وهذا عكس مقصود
الرجعة، فإن الله سبحانه إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها ولم شعث النكاح،
وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا، فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا
يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر، لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق. قالوا:
وقد أكد الشارع هذا المعنى، حتى إنه أمر في بعض طرق هذا الحديث بأن يمسكها في
الطهر المتعقب لتلك الحيضة، فإذا حاضت بعده وطهرت، فإن شاء طلقها قبل أن يمسها،
فإنه قال " مره فليراجعها، فإذا طهرت مسها، حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها
وإن شاء أمسكها " ذكره ابن عبد البر، وقال: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا
بالوطء، لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في الطهر، فإذا وطئها حرم
طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر، فاعتبرنا مظنة الوطء ومحله، ولم يجعله محلا للطلاق.
الثاني: أن الطلاق حرم في الحيض لتطويل العدة عليها، فلو طلقها عقب الرجعة من غير
وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، فإن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب
عليها من العدة، وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها، أو من الحيضة الأخرى، على
الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك الحيضة كانت في معنى ممن طلقت ثم راجعها
ولم يمسها حتى طلقها، فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين، لأنها لم تنقطع بوطء،
فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه هنا، لم يزل بطلاقها عقب
الحيضة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع حكم الطلاق جملة بالوطء،
فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء، فإذا وطئ حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر. ومنها:
أنها ربما كانت حاملا وهو لا يشعر، فإن الحامل قد ترى الدم بلا ريب، وهل حكمه حكم
الحيض أو دم فساد على الخلاف فيه، فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر
تام، ثم بحيض تام، فحينئذ تعلم هل هي حامل أو حائل؟ , فإنه ربما يمسكها إذا علم
أنها حامل منه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل وربما يزول
الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحقيق علمها بذلك نظرا للزوجين، ومراعاة
لمصلحتهما، وحسما لباب الندم , وهذا من أحسن محاسن الشريعة. وقيل: الحكمة
فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاء له على ما فعله من إيقاعه على الوجه
المحرم. ورد هذا بأن ابن عمر لم يكن يعلم التحريم. وأجيب عنه بأن هذا حكم شامل له
ولغيره من الأمة، وكونه - رضي الله عنه - لم يكن عالما بالتحريم يفيد نفي الإثم لا
عدم ترتب هذه المصلحة على الطلاق المحرم في نفسه. وقيل: حكمته أن الطهر الذي بعد
تلك الحيضة هو من حريم تلك الحيضة، فهما كالقرء الواحد، فلو شرع الطلاق فيه لصار
كموقع طلقتين في قرء واحد، وليس هذا بطلاق السنة. وقيل: حكمته أنه نهى عن الطلاق
في الطهر، ليطول مقامه معها، ولعله تدعوه نفسه إلى وطئها، وذهاب ما في نفسه من
الكراهة لها، فيكون ذلك حرصا على ارتفاع الطلاق البغيض إلى الله، المحبوب إلى
الشيطان، وحضا على بقاء النكاح، ودوام المودة والرحمة والله أعلم. وقوله - صلى
الله عليه وسلم -: " ثم ليطلقها طاهرا " وفي اللفظ الآخر " فإذا
طهرت فليطلقها إن شاء " هل المراد به انقطاع الدم، أو التطهر بالغسل، أو ما
يقوم مقامه من التيمم؟ , على قولين، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: أنه انقطاع
الدم وهو قول الشافعي , والثانية: أنه الاغتسال، وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأكثر الحيض
حل طلاقها بانقطاع الدم، وإن طهرت لدون أكثره لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم
الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء إما أن تغتسل، وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي، وإما أن
يخرج عنها وقت صلاة، لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع حيضها. وسر
المسألة أن الأحكام المترتبة على الحيض نوعان: منها ما يزول بنفس انقطاعه كصحة
الغسل والصوم، ووجوب الصلاة في ذمتها. ومنها ما لا يزول إلا بالغسل كحل الوطء وصحة
الصلاة، وجواز اللبث في المسجد، وصحة الطواف، وقراءة القرآن على أحد الأقوال، فهل
يقال: الطلاق من النوع الأول، أو من الثاني؟ ولمن رجح إباحته قبل الغسل أن يقول:
الحائض إذا انقطع دمها صارت كالجنب، يحرم عليها ما يحرم عليه، ويصح منها ما يصح
منه، ومعلوم أن المرأة الجنب لا يحرم طلاقها. ولمن رجح الثاني أن يجيب عن هذا
بأنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها، ويحتج بما رواه النسائي في سننه من حديث المعتمر
بن سليمان قال: سمعت عبيد الله عن نافع عن عبد الله: " أنه طلق امرأته وهي حائض
تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم -: مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها
حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها
النساء " , وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله: " فإذا طهرت "
فيجب حمله عليه. وتمام هذه المسألة: أن العدة هل تنقضي بنفس انقطاع الدم وتنقطع
الرجعة، أم لا تنقطع إلا بالغسل، وفيه خلاف بين السلف والخلف، يأتي في موضعه إن
شاء الله تعالى. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ثم ليطلقها طاهرا قبل أن
يمس " دليل على أن طلاقها في الطهر الذي مس فيه ممنوع منه وهو طلاق بدعة،
وهذا متفق عليه، فلو طلق فيه قالوا: لم يجب عليه رجعتها، قال ابن
عبد البر: أجمعوا على أن الرجعة لا تجب في هذه الصورة، وليس هذا الإجماع ثابتا،
وإن كان قد حكاه صاحب المغني أيضا، فإن أحد الوجهين في مذهب أحمد وجوب الرجعة في
هذا الطلاق، حكاه في الرعاية، وهو القياس، لأنه طلاق محرم، فتجب الرجعة فيه كما
تجب في الطلاق في زمن الحيض. ولمن فرق بينهما أن يقول: زمن الطهر وقت للوطء
وللطلاق، وزمن الحيض ليس وقتا لواحد منهما، فظهر الفرق بينهما، فلا يلزم من الأمر
بالرجعة في غير زمن الطلاق الأمر بها في زمنه، ولكن هذا الفرق ضعيف جدا، فإن زمن
الطهر متى اتصل به المسيس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق سواء، ولا فرق بينهما، بل
الفرق المؤثر عند الناس أن المعنى الذي وجبت لأجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في
صورة الطلاق في الطهر الذي مسها فيه، فإنها إنما حرم طلاقها في زمن الحيض لتطويل
العدة عليها، فإنها لا تحتسب ببقية الحيضة قرءا اتفاقا. فتحتاج إلى استئناف ثلاثة
قروء كوامل، وأما الطهر فإنها تعتد بما بقي منه قرءا ولو كان لحظة، فلا حاجة بها
إلى أن يراجعها، فإن من قال الأقراء الأطهار كانت أول عدتها عنده عقب طلاقها، ومن
قال هي الحيض استأنف بها بعد الطهر، وهو لو راجعها ثم أراد أن يطلقها لم يطلقها
إلا في طهر، فلا فائدة في الرجعة , هذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين. وبعد، ففيه
إشكال لا ينتبه له إلا من به خبرة بمأخذ الشرع وأسراره، وجمعه وفرقه. وذلك أن
النبي - صلى
الله عليه وسلم - أمره أن يطلقها إذا شاء قبل أن يمسها، وقال: " فتلك العدة التي أمر بها
الله أن تطلق لها النساء " وهذا ظاهر في أن العدة إنما يكون استقبالها من طهر
لم يمسها فيه، إن دل على أنها بالأطهار، وأما طهر قد أصابها فيه فلم يجعله النبي -
صلى الله عليه وسلم - من العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء , فكما لا تكون
عدتها متصلة بالحيضة التي طلق فيها ينبغي أن لا تكون متصلة بالطهر الذي مسها فيه.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بينهما في المنع من الطلاق فيهما، وأخبر أن
العدة التي أمر بها الله أن يطلق لها النساء هي من وقت الطهر الذي لم يمسها فيه،
فمن أين لنا أن الطهر الذي مسها فيه هو أول العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء؟،
وهذا مذهب أبي عبيد، وهو في الظهور والحجة كما ترى، وقال الإمام أحمد والشافعي
ومالك وأصحابهم: لو بقي من الطهر لحظة حسبت لها قرءا وإن كان قد جامع فيه، إذا
قلنا: الأقراء الأطهار. قال المنتصرون لهذا القول: إنما حرم الطلاق في زمن الحيض
دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في زمن
الطهر أضر بها وأطول عليها , وهذا ضعيف جدا، فإنها إذ طلقت فيه قبل المسيس احتسب
به، وأما إذا طلقت بعد المسيس كان حكمها حكم المطلقة في زمن الحيض، فكما لا تحتسب
ببقية الحيضة لا تحتسب ببقية هذا الطهر الممسوسة فيه. قالوا: ولم يحرم الطلاق في
الطهر لأجل التطويل الموجود في الحيض، بل إنما حرم لكونها مرتابة، فلعلها قد حملت
من ذلك الوطء، فيشتد ندمه إذا تحقق الحمل، ويكثر الضرر , فإذا أراد أن يطلقها طلقها
طاهرا من غير جماع، لأنهما قد تيقنا عدم الريبة، وأما إذا ظهر الحمل فقد دخل على
بصيرة وأقدم على فراقها حاملا. قالوا: فهذا الفرق بين الطلاق في الحيض والطهر
المجامع فيه. قالوا: وسر ذلك أن المرأة إن كانت حاملا من هذا الوطء فعدتها بوضع
الحمل، وإن لم تكن قد حملت منه فهو قرء صحيح، فلا ضرر عليها في طلاقها فيه , ولمن
نصر قول أبي عبيد أن يقول: الشارع إنما جعل استقبال عدة المطلقة من طهر لم يمسها
فيه ليكون المطلق على بصيرة من أمره، والمطلقة على بصيرة من عدتها أنها بالأقراء ,
فأما إذا مسها في الطهر ثم طلقها، لم يدر أحاملا أم حائلا، ولم تدر المرأة أعدتها
بالحمل أم بالأقراء، فكان الضرر عليهما في هذا الطلاق أشد من الضرر في طلاقها وهي
حائض، فلا تحتسب ببقية ذلك الطهر قرءا، كما لم يحتسب الشارع به في جواز إيقاع
الطلاق فيه , وهذا التفريع كله على أقوال الأئمة والجمهور. وأما من لم يوقع الطلاق
البدعي فلا يحتاج إلى شيء من هذا. وقوله " ليطلقها طاهرا أو حاملا "
دليل على أن الحامل طلاقها سني، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن الحامل
طلاقها للسنة، قال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث سالم عن أبيه " ثم ليطلقها
طاهرا أو حاملا " , وعن أحمد رواية أخرى، أن طلاق الحامل ليس بسني ولا بدعي،
وإنما يثبت لها ذلك من جهة العدد لا من جهة الوقت، ولفظه " الحمل " في
حديث ابن عمر انفرد بها مسلم وحده في بعض طرق الحديث. ولم يذكرها البخاري. فلذلك
لم يكن طلاقها سنيا ولا بدعيا، لأن الشارع لم يمنع منه. فإن قيل: إذا لم يكن سنيا
كان طلاقها بدعيا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح طلاقها في طهر لم
يمسها فيه، فإذا مسها في الطهر وحملت واستمر حملها، استمر المنع من الطلاق، فكيف
يبيحه تجدد ظهور الحمل، فإذا لم يثبتوا هذه اللفظة لم يكن طلاق الحامل جائزا.
فالجواب: أن المعنى الذي لأجله حرم الطلاق بعد المسيس معدوم عند ظهور الحمل، لأن
المطلق عند ظهور الحمل قد دخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم، وليست
المرأة مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها، بخلاف طلاقها مع الشك في حملها. والله
أعلم. وقوله
" طاهرا أو حاملا " احتج به من قال
الحامل لا تحيض، لأنه - صلى الله عليه وسلم - حرم الطلاق في زمن الحيض، وأباحه في
وقت الطهر والحمل، فلو كانت الحامل تحيض لم يبح طلاقها حاملا إذا رأت الدم، وهو
خلاف الحديث. ولأصحاب القول الآخر أن يجيبوا عن ذلك بأن حيض الحامل لم يكن له
تأثير في العدة بحال لا في تطويلها ولا تخفيفها، إذ عدتها بوضع الحمل، فأباح
الشارع طلاقها حاملا مطلقا، وغير الحامل لم يبح طلاقها إلا إذا لم تكن حائضا، لأن
الحيض يؤثر في العدة، لأن عدتها بالأقراء، فالحديث دل على أن المرأة لها حالتان: أحدهما:
أن تكون حائلا، فلا تطلق إلا في طهر لم يمسها فيه. والثانية: أن تكون حاملا فيجوز
طلاقها. والفرق بين الحامل وغيرها في الطلاق إما هو بسبب الحمل وعدمه، لا بسبب حيض
ولا طهر , ولهذا يجوز طلاق الحامل بعد المسيس دون الحائل، وهذا جواب سديد والله
أعلم. وقد احتج بالحديث من يرى أن السنة تفريق الطلقات على الأقراء، فيطلق لكل قرء
طلقة، وهذا قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين، وعن أحمد رواية كقولهم. قالوا: وذلك لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمره بإمساكها في الطهر المتعقب للحيض، لأنه لم
يفصل بينه وبين الطلاق طهر كامل، والسنة أن يفصل بين الطلقة والطلقة قرء كامل،
فإذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت , طلقها طلقة بائنة، لحصول الفصل بين الطلقتين بطهر
كامل. قالوا:
فلهذا المعنى اعتبر الشارع الفصل بين الطلاق الأول والثاني. قالوا: وفي
بعض حديث ابن عمر " السنة أن يستقبل الطهر، فيطلق لكل قرء " وروى النسائي
في سننه عن ابن مسعود قال: " طلاق السنة أن يطلقها تطليقة وهي طاهر في غير
جماع، فإذا حاضت فطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم تعتد بعد ذلك
بحيضة ". وهذا الاستدلال ضعيف، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره
بإمساكها في الطهر الثاني ليفرق الطلقات الثلاث على الأقراء، ولا في الحديث ما يدل
على ذلك، وإنما أمره بطلاقها طاهرا قبل أن يمسها وقد ذكرنا حكمة إمساكها في الطهر
الأول. وقوله " فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء "، احتج به
من يرى الأقراء هي الأطهار. قالوا: واللام بمعنى الوقت، كقوله
تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وقول العرب: كتب لثلاث مضين ولثلاث بقين , وفي
الحديث: " فليصلها إذا ذكرها، ومن الغد للوقت " , قالوا فهذه اللام
الوقتية بمعنى (في) , وأجاب الآخرون عن هذا بأن اللام في قوله تعالى {فطلقوهن
لعدتهن} هي اللام المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم - " أن تطلق لها
النساء ولا يصح أن تكون وقتية، ولا ذكر أحد من أهل العربية أن اللام تأتي بمعنى
" في " أصلا , ولا يصح أن تكون بمعنى " في "، ولو صح في غير
هذا الموضع، لأن الطلاق لا يكون في نفس العدة، ولا تكون عدة الطلاق ظرفا له قط،
وإنما اللام هنا على بابها للاختصاص , والمعنى طلقوهن مستقبلات عدتهن، ويفسر هذا
قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر: " فطلقوهن في قبل عدتهن
"، أي: في الوقت الذي يستقبل فيه العدة , وعلى هذا فإذا طلقها في طهرها
استقبلت العدة من الحيضة التي تليه، فقد طلقها في قبل عدتها، بخلاف ما إذا طلقها
حائضا، فإنها لا تعتد بتلك الحيضة، وينتظر فراغها وانقضاء الطهر الذي يليها ثم
تشرع في العدة، فلا يكون طلاقها حائضا طلاقا في قبل عدتها، وقوله " مره
فليراجعها " دليل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به. وقد اختلف الناس في
ذلك، وفصل النزاع أن المأمور الأول إن كان مبلغا محضا كأمر النبي - صلى الله عليه
وسلم - آحاد الصحابة أن يأمر الغائب عنه بأمره، فهذا أمر به من جهة الشارع قطعا،
ولا يقبل ذلك نزاعا أصلا، ومنه قوله " مرها فلتصبر ولتحتسب " وقوله
" مروهم بصلاة كذا في حين كذا " ونظائره، فهذا الثاني مأمور به من جهة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا عصاه المبلغ إليه فقد عصى أمر الرسول - صلى
الله عليه وسلم - والمأمور الأول مبلغ محض، وإن كان الأمر متوجها إلى المأمور الأول
توجه التكليف والثاني غير مكلف، لم يكن أمرا للثاني من جهة الشارع، كقوله - صلى
الله عليه وسلم - " مروهم بالصلاة لسبع " , فهذا الأمر خطاب للأولياء
بأمر الصبيان بالصلاة، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب. والله أعلم بالصواب. فهذه
أمور نبهنا بها على بعض فوائد حديث ابن عمر، فلا تستطلها، فإنها مشتملة على فوائد
جمة، وقواعد مهمة، ومباحث لمن قصده الظفر بالحق، وإعطاء كل ذي حق حقه، من غير ميل
مع ذي مذهبه، ولا خدمة لإمامه وأصحابه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل
تابع للدليل حريص على الظفر بالسنة والسبيل يدور مع الحق أنى توجهت ركائبه، ويستقر
معه حيث استقرت مضاربه، ولا يعرف قدر هذا السير إلا من علت همته، وتطلعت نوازع
قلبه، واستشرفت نفسه إلى الارتضاع من ثدي الرسالة، والورود من عين حوض النبوة، والخلاص
من شباك الأقوال المتعارضة، والآراء المتناقضة، إلى فضاء العلم الموروث، عمن لا
ينطق عن الهوى، ولا يتجاوز نطقه البيان والرشاد والهدى وبيداء اليقين التي من حلها
حشد في زمرة العلماء، وعد من ورثة الأنبياء، وما هي إلا أوقات محدودة، وأنفاس على
العبد معدودة، فلينفقها فيما شاء , أنت القتيل لكل من أحببته
فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي. عون المعبود - (ج 5 / ص 70) (2) [الطلاق/1] (3)
(د) 2185 , (عب) 10960 , (م) 14 - (1471) , (س) 3392 , (هق) 14706 ,
وصححه الألباني في الإرواء تحت حديث: 2059، وقال: وقال أبو داود عقبه: (روى
هذا الحديث عن ابن عمر يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد ابن جبير وزيد بن أسلم
وأبو الزبير ومنصور عن أبى وائل معناهم كلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره
أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك وروى عطاء
الخراساني عن الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري والأحاديث كلها على خلاف ما
قال أبو الزبير).
قلت أي ابن القيم: كذا قال وأبو الزبير ثقة حجة
وإنما يخشى منه العنعنة لأنه كان مدلسا وهنا قد صرح بالسماع فأمنا شبهة تدليسه وصح
بذلك حديثه والحمد لله وقد ذهب الحافظ ابن حجر في (الفتح) (9/ 308) إلى أنه صحيح
على شرط الصحيح , وهو الحق الذي لا ريب فيه. ولكنه ناقش في دلالته عل عدم وقوع
طلاق الحائض والبحث في ذلك بين الفريقين طويل جدا فراجعه فيه وفي زاد (المعاد)
فإنه قد أطال النفس فيه وأجاد.
*وأما دعوى أبى داود أن
الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير فيرده طريق سعيد بن جبير التي قبله فإنه
موافق لرواية أبي الزبير هذه فإنه قال: فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك علي
حتى طلقتها وهي طاهر). وإسنادها صحيح غاية كما تقدم فهى شاهد قوي جدا لحديث أبي الزبير
ترد قول أبي داود المتقدم ومن نحا نحوه مثل ابن عبد البر والخطابي وغيرهم. ومن
العجيب أن هذا الشاهد لم يتعرض لذكره أحد من الفريقين مع أهميته , فاحفظه واشكر
الله على توفيقه.
*وذكر له الحافظ متابعا آخر
فقال: (وروى
سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس ذلك بشيء). وسكت الحافظ عليه , وعبد الله
بن مالك بن الحارث الهمداني قال في (التقريب): (مقبول)
*(تنبيه): من الأسباب التي
حملت ابن القيم وغيره على عدم الأعتداد بطلاق الحائض ما ذكره من رواية ابن حزم عن
محمد بن عبد السلام الخشني: حدثنا محمد بن بشار حدثنا
عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفى حدثنا عبيدالله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن
ابن عمربأنه قال في رجل يطلق امرأته وهي حائض؟ , قال ابن عمر: يعتد بذلك. وقال
الحافظ في (الفتح) (9/ 309): (أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح).
*وقال أيضا: (واحتج بعض من
ذهب إلى أن الطلاق لا يقع بما روي عن الشعبي قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض
لم يعتد بها في قول ابن عمر. قال ابن عبد البر: وليس معناه ما ذهب إليه , وإنما
معناه لم تعتد المرأة بتلك الحيضة في العدة). ثم ذكر الحافظ عقبه رواية ابن حزم وقال: (والجواب
عنه مثله). قلت: ويؤيده أمران: الأول: أن ابن أبي شيبة قد أخرج الرواية المذكورة
بلفظ آخر يسقط الأستدلال به وهو: حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن عبيدالله بن عمر عن
نافع عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته وهما حائض؟ , قال: (لا تعتد بتلك الحيضة)
, وهكذا أخرجه ابن الأعرابي في (معجمه) (ق 173/ 2) , فهو بهذا اللفظ نص على أن
الإعتداد المنفي ليس هو الطلاق في الحيض , وإنما اعتداد المرأة المطلقة
بتلك الحيضة فسقط الإستدلال المذكور. والآخر: أن عبيد الله قد روى أيضا عن
نافع عن ابن عمر في حديثه المتقدم في تطليقه لزوجته , قال عبيد الله: (وكان تطليقه
إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة). أخرجه الدارقطني (428).
*والطرق بهذا المعنى عن ابن
عمر كثيرة كما تقدم فإن حملت رواية عبيد الله الأولى على عدم الأعتداد بطلاق
الحائض تناقضت مع روايته هذه والروايات الأخرى عن ابن عمر , ونتيجة ذلك أن ابن عمر
هو المتناقض , والأصل في مثله عدم التناقض فحينئذ لا بد من التوفيق بين الروايتين
لرفع التناقض , والتوفيق ما سبق في كلام ابن عبد البر , ودعمناه برواية ابن أبي
شيبة , وإن لم يمكن فلا مناص من الترجيح بالكثرة والقوة وهذا ظاهر في رواية عبيدالله
الثانية , ولكن لا داعي للترجيح فالتوفيق ظاهر والحمد لله.
*ثم وقفت على طريق أخرى عن
ابن عمر تؤيد ما سبق من الروايات الراجحة , وهو ما أخرجه ابن عدي في ترجمة حبيب بن
أبي حبيب صاحب الأنماط من (الكامل) (103/ 2) عنه عن
عمرو بن هرم قال: قال جابر بن زيد: (لا يطلق الرجل امرأته وهي حائض , فإن طلقها
فقد جاز طلاقه وعصى ربه , وقد طلق ابن عمر امرأته تطليقة وهي حائض فأجازها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يراجعها , فإذا
طهرت طلقها إن شاء فراجعها ابن عمر حتى إذا طهرت طلقها). وإسناده هكذا: ثنا عمر بن
سهل ثنا يوسف ثنا داود بن شبيب ثنا حبيب ابن أبي حبيب به. وهذا إسناد رجاله
معروفون من رجال التهذيب لا باس بهم غير يوسف وهو ابن ماهان لم أجد له ترجمة وعمر
بن سهل وهو ابن مخلد أورده الخطيب في (تاريخه) (11/ 224) وكناه بأبي حفص البزار
وقال: (حدث عن الحسن بن عبد العزيز الجروي روى عنه عبد الله بن عدي الجرجاني وذكر
أنه سمع منه ببغداد). [هذا طريق ضعيف جدا ولذلك أوردة ابن عدي في الكامل]
*(فائدة أخرى هامة) روى أبو
يعلى في (حديث ابن بشار) عقب حديث ابن عمر المتقدم بلفظ (فمه) وعن ابن عون عن محمد
ابن سيرين قال: (كنا ننزل قول ابن عمر في أمر طلاقه على (نعم). قال ابن عون: (وكنا
ننزل قول محمد: (لا أدري) على الكراهة) (فائدة ثالثة) كان تطليق ابن عمر لزوجته
إطاعة منه لأبيه عمر - رضي الله عنه - فقد روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر
قال: (كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أبى أن أطلقها فأبيت فذكرت
ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - (وفي رواية: فأتى عمر النبي - صلى الله عليه
وسلم - فذكر ذلك له) فقال: يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك (قال: فطلقتها).
أخرجه أبو داود (5138) والترمذي (1/ 223 - 224) وابن ماجه (2088) والطيالسي
(1822) وأحمد (2/ 2 0، 4 2، 53، 157) وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح). أ. هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق